خطة بايدن والتنمية المستدامة- انعكاسات على المنطقة العربية والعالم

بالارتكاز على التوافق الوثيق بين رؤية الرئيس بايدن وخطة التنمية المستدامة الأممية، شرع الرئيس الأمريكي في مسارين متوازيين ومتكاملين، يوليهما القدر ذاته من الاهتمام والرعاية.
يتمثل المسار الأول في الشأن الداخلي للولايات المتحدة، ويحظى بالأولوية القصوى، بينما يركز المسار الثاني على السياسة الخارجية. كلا المسارين يهدفان بشكل أساسي إلى دعم جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة الطموحة، التي تتطلع الأمم المتحدة إلى إنجازها بحلول عام 2030.
هذه الخطة لا تستهدف فقط دول العالم الثالث، بل تسعى جاهدة لإحداث تغيير جذري وشامل في جميع دول العالم قاطبة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الآثار المحتملة لهذه الخطة على المنطقة العربية المشتعلة بالنزاعات والصراعات الدامية، والتي ترزح تحت وطأة الاستبداد السياسي والفساد المستشري من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؟ وما هو تأثيرها على الساحة العالمية التي تشهد منافسة محمومة بين قوى صاعدة تسعى إلى تغيير موازين القوى وتقويض هيمنة القطب الأمريكي الواحد، الذي يراقب هذا الصعود عن كثب، ويعمل جاهداً على عرقلة تقدم هذه الدول وإجهاض طموحاتها؟
في ظل هذه المعطيات، من المتوقع أن تستمر الصراعات العربية، سواء السياسية أو العسكرية، في التذبذب دون تحقيق حلول جذرية أو نهائية. من المستبعد أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها وقوتها لإنهاء هذه الصراعات، بل سيقتصر دورها على تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية، والتأكيد على القيم العالمية لحقوق الإنسان، وحماية المدنيين، وتشجيع حل النزاعات عبر الحوار والتفاوض السلمي.
انطلق الرئيس بايدن بخطوات واثقة وسريعة لتفعيل هذه الخطة على مستوى الولايات المتحدة، مع تخصيص ميزانية إضافية ضخمة، لا تزال قيد الدراسة والموافقة، تصل إلى 5.3 تريليونات دولار على مدى 10 سنوات. تهدف هذه الميزانية إلى إحداث نهضة شاملة وتنمية واسعة في 3 قطاعات حيوية ورئيسية هي: قطاع البنية التحتية المتداعية للدولة، وقطاع دعم الأسر والعائلات، وقطاع البنية الاقتصادية الهشة. يحرص الرئيس بايدن على التواصل المباشر مع الشعب الأمريكي عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وذلك بمعدل مرة كل ساعة تقريباً، لشرح تفاصيل هذه الخطة وأهدافها الطموحة والنتائج المستقبلية المرجوة، بهدف كسب التأييد الشعبي وتعزيز التفاعل الإيجابي معها.
وبالوتيرة والإيقاع ذاتهما، يتحرك الرئيس بايدن على الصعيد الدولي ليقود دفة عملية تسريع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، بالاعتماد على الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين والقطاع الخاص، من خلال حزمة استثمارية طموحة تتجاوز 4 تريليونات دولار سنوياً. هذا التحرك النشط يتطلب من الولايات المتحدة اعتماد سياسات محددة وواضحة تجاه المنطقة العربية والعالم أجمع، لخلق بيئة مواتية وتشجيع مشاركة واسعة النطاق دون عوائق لتحقيق هذه الأهداف النبيلة.
في ضوء خطة الرئيس بايدن الطموحة لقيادة العالم نحو التحول المنشود وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والسياسات التي ستتبناها إدارته تجاه دول المنطقة العربية، فإنه من المستبعد أن نشهد تغييرات جوهرية أو تحولات جذرية في الواقع السياسي الراهن الذي تعيشه المنطقة. من المتوقع أن تركز الإدارة الأمريكية جهودها بشكل أساسي على تحقيق الأهداف التالية:
1. توسيع دائرة الدول المؤيدة والداعمة لتسريع تنفيذ الخطط والمبادرات الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
2. حث الدول العربية على الاستجابة الفعالة للأدوار والمسؤوليات التي ستطلب منها لتنفيذ هذه الخطط، والتفاعل الإيجابي مع العمليات التحويلية المصاحبة لها، في الأنظمة والتشريعات والسياسات على المستوى المحلي.
3. تشجيع انخراط الدول العربية الفعال في الفعاليات والمبادرات التي ستقودها الولايات المتحدة لتحقيق هذه الأهداف، وما سينتج عنها من خطط واتفاقيات دولية وإقليمية ملزمة.
4. مضاعفة حجم استثمارات الدول العربية الغنية في المشروعات الاستثمارية الضخمة المرتبطة بهذه الأهداف.
5. تحفيز وتشجيع الشركات العربية الكبرى ذات الرساميل الضخمة على الاستثمار في مشروعات أهداف التنمية المستدامة، في مجالات حيوية مثل المناخ والطاقة والبنية التحتية والتحول الرقمي، وغيرها من المجالات الواعدة.
6. تيسير وتبسيط عملية تقييم ومراقبة التحول في الدول العربية نحو تحقيق متطلبات أهداف التنمية المستدامة.
وبناءً على ذلك، يمكننا أن نتوقع أبرز النتائج المحتملة في الواقع السياسي الراهن لدول المنطقة:
1. الصراعات العربية الداخلية
من المرجح أن تستمر الصراعات العربية، سواء الداخلية أو البينية، السياسية أو العسكرية، في التذبذب والتأرجح دون التوصل إلى حلول حاسمة ونهائية. من غير المتوقع أن تستخدم الولايات المتحدة سلطتها ونفوذها لإنهاء هذه الصراعات، بل سيقتصر دورها على تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية، والتأكيد على القيم النبيلة لحقوق الإنسان، وتوفير الحماية للمدنيين الأبرياء، وتشجيع أطراف النزاع على حل خلافاتهم عبر الحوار والتفاوض السلمي. ستظل الحروب والصراعات مشتعلة، وستستمر الاضطرابات السياسية على حالها، وفي المقابل، ستواصل الدبلوماسية الأمريكية جهودها الحثيثة مع حلفائها، من خلال جولاتها المكوكية المستمرة مع أطراف النزاعات، ولكن دون تحقيق نتائج ملموسة أو حاسمة.
2. القضية الفلسطينية
أبدى الرئيس بايدن وضوحاً تاماً في سياسته المرتقبة تجاه القضية الفلسطينية، حينما صرح قائلاً: "أمامنا طريق طويل وشاق لتحقيق هذا الهدف (حل الدولتين) في الوقت الراهن، ولكن يجب ألا نستسلم لليأس من إمكانية تحقيق تقدم". كما أكد التزامه الكامل بأمن دولة إسرائيل. من المستبعد أن تقدم الإدارة الأمريكية الحالية أي مبادرات جديدة أو فعالة لحل القضية الفلسطينية، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني. من المتوقع أن يبقى الوضع على ما هو عليه في السنوات الثلاث المقبلة، وقد يتفاقم هذا الوضع بسبب عجز الجانب الفلسطيني عن اتخاذ خطوات جادة من شأنها تغيير الموقف الإقليمي والدولي الراهن.
3. اتفاقيات إبراهيم (أبراهام)
من المتوقع أن تواصل إدارة بايدن المضي قدماً فيما بدأته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وأن تستمر في خطوات التوقيع الثنائي على "اتفاقيات إبراهيم" بين إسرائيل ودول عربية جديدة، استكمالاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد. هذا المشروع ليس وليد اللحظة، بل هو مشروع استراتيجي تبنته الولايات المتحدة وإسرائيل منذ فترة طويلة، وتم إحياؤه من جديد بعد أن تهيأت له الظروف المناسبة في المنطقة العربية. قد نشهد في السنوات الثلاث المقبلة توقيع دول عربية مركزية وهامة على هذه الاتفاقيات، مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
4. الموقف من الاستبداد والفساد
من المتوقع أن تستمر إدارة بايدن في رفع لواء الديمقراطية، والمطالبة بضرورة تعزيز الحريات الأساسية والمحافظة على حقوق الإنسان، ولكنها في الوقت ذاته ستواصل التعامل مع جميع الأنظمة العربية، بغض النظر عن طبيعة الحكم فيها، ومدى احترامها أو انتهاكها للحريات وحقوق الإنسان. لن تتخذ الإدارة الأمريكية أي إجراءات حاسمة من شأنها ترسيخ دعائم الديمقراطية في الدول ذات التوجه الديمقراطي الجديد، مثل تونس وليبيا والسودان.
من المرجح أن تتغاضى الإدارة الأمريكية عن الفساد الإداري والمالي المستشري في بعض الدول العربية، ما دام هذا الفساد بعيداً عما تعتبره الإدارة الأمريكية تمويلاً للإرهاب، بل ستعمل على الاستفادة من هذه الأموال في تمويل مشروعات أهداف التنمية المستدامة.
5. الإرهاب
من المتوقع أن تواصل إدارة بايدن حربها الشرسة ضد (الإرهاب)، في إطار السياسة القديمة التي وضعتها الولايات المتحدة منذ حوالي ربع قرن، لتسهيل عملية قيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ونشر المزيد من القواعد العسكرية في المناطق الاستراتيجية حول العالم.
ستواصل الولايات المتحدة بكل السبل المتاحة تغذية الصورة الذهنية للإرهاب وجماعاته وداعميه، باعتباره الفزاعة التي تديرها حسبما تقتضيه خططها الإقليمية والدولية. كما ستواصل الولايات المتحدة تنفيذ عمليات عسكرية نوعية من حين لآخر في سوريا والعراق وليبيا وامتداداتها الإقليمية ضد تنظيم داعش والقاعدة.
6. المساواة والتمكين ومحاربة التمييز
من المرجح أن تبذل إدارة بايدن جهوداً مضنية واستثنائية وغير مسبوقة لتعزيز ثقافة المساواة بين الجنسين على أساس النوع الإنساني، وتمكين المرأة في جميع مجالات الدولة ومؤسساتها ومستوياتها، ومحاربة جميع أشكال التمييز بكل أنواعه، ثم تحويل هذه الثقافة النخبوية إلى تشريعات قانونية ملزمة، ومناهج تعليمية شاملة، وتغطيات إعلامية واسعة النطاق، وورش تدريبية مكثفة، والعمل على زيادة أعداد الكوادر المدافعة عن هذه المبادئ في مختلف الأوساط الرسمية والاجتماعية، وتوفير الحماية الدولية اللازمة لهم.
ستدافع إدارة بايدن بشراسة في الدول العربية عن حقوق المثليين والمثليات، ومزدوجي الميل الجنسي، والمتحولين جنسياً، دون غيرهم من الفئات التي تتعرض للتمييز والاضطهاد. من المتوقع أن تشهد الدول العربية في السنوات الثلاث المقبلة حراكاً كبيراً وغير مسبوق، فكرياً وفقهياً وثقافياً واجتماعياً لصالح هذه الفئة على وجه الخصوص.
7. إيران وتركيا
من المرجح أن تعمل إدارة بايدن على احتواء نسبي للأزمات الإقليمية التي تواجه الدول العربية، وبالذات مع إيران وتركيا، بما يسمح لها بالمضي قدماً في تنفيذ مشروعات أهداف التنمية المستدامة، ولكن ليس على حساب زعامتها الدولية وهيمنتها الإقليمية.
ستستمر إيران في لعب دورها الإقليمي في كل من سوريا واليمن ولبنان، كما ستستمر تركيا في لعب دورها في سوريا وليبيا، إلى أن تحدث متغيرات عربية داخلية أو إقليمية، تتطلب من إيران وتركيا تعديل مواقفهما تجاه الدول التي تتدخلان فيها، ولكن هذا التعديل لن يكون تحت ضغط أو تأثير من إدارة بايدن.